(مذكراتي)ح21 الخروج من مملكة الرعب
بقلم .. كريم وهاب عبيد العيدان ..
لم يكن خروج الدكتور خلف عبدالصمد من سجن ابي غريب هو نهاية الماساة بل هو مدخل جديد لاداء التكليف الشرعي ، خاصة وان الاضرار النفسية والمعاناة تبقى بصمات تؤثر في مسيرة الانسان وفي تفاصيل حياته الأخرى ، كل علماء النفس والاجتماع يعتبرون أن مشكلة التعذيب لاتقف عند حدود اللحظة بل هي اختزال خطير في ذاكرة وعمق الانسان ومستقبله
لان التعذيب يهدف إلى تحطيم الفرد، جسديا ونفسيا، وتدمير ثقة الإنسان في الإنسانية، وتعطيل جميع علاقاته بالمجتمع ،ويقول هؤلاء انه في كثير من الأحيان، لا يترك التعذيب أي آثار جسديّة، إلا أن الجسم يصبح حاوية لشخصيّة منكسرة وروح تحمل ندبات عميقة وعديدة. قد يكون الجسم من الخارج في شكل عادي لكن يحمله داخله العديد من الانكسارات. وقد يجد ضحايا التعذيب الذين يبقون على قيد الحياة أنفسهم غريبين عن كل شيء وكل شخص يعرفونه.
هذه المعاناة لاشك أنها كانت تحتل مساحات كبيرة من واقع وحياة وذاكرة الأستاذ خلف عبدالصمد ، وهي بلاشك ظروف جديدة حاول الدكتور بايمانه وصبره التغلب عليها وتجاوزها من اجل شق طريقه للحياة وممارسة دوره في الدعوة لله والتغيير واسعاد البشرية رغم معاناته وندوبه النفسية ، صحيح انه وبعد الانتفاضة الشعبانية المباركة تغيرت العديد من المسلمات والأمور السياسية في العراق لان الانتفاضة نجحت في تقليم مخالبه في تلك الفترة ، وبات الصراع العائلي على السلطة في اشده ، وبات ينخر في داخل مكونات النظام وقواه الاجرامية ، فيما انشغلت فئات الشعب بتضميد جراحاتها في ظل معاناة جديدة فرضها الحصار الدولي على العراق ، الا أن كوابيس هذا النظام ظلت تقلق العراقيين وتقض مضاجعهم.
هذا الواقع المرتبك والمشحون بالهواجس والمخاوف ساهم في خروج العقول العراقية إلى الخارج وطبعا تبقى مشاعر الألم والشعور بالاضطهاد تطارد الانسان العراقي المعذب ، وبالطبع تدفعه للبحث عن مراغم جديدة للحياة الكريمة واستعادة الشعور بالحياة والكرامة ، وعلى ضوء هذه الحقائق تركز فكر الدكتور خلف عبدالصمد على قضية الهجرة باعتبارها حاجة طبيعية لاستعادة التوازن والحصول على فرصة اخرى للجهاد ومواجهة النظام الطاغوتي، من هنا قرر صاحب المذكرات للهجرة إلى الخارج ، وهو قرار ليس من إلسهل على الانسان تنفيذه لكنها الظروف الجائرة هي التي تحكم على الانسان وترمي به في مجاهيل الأقدار و الأحداث ، انه القدر الذي يطاردنا احيانا عندما نحاصر في وجودنا ولقمة العيش وفسحة الامل ، وهذا ما جرى لي عندما اصدر النظام الصدامي حكما بالاعدام الميداني علي ، لاجد نفسي محاصرا ومجبرا على الخروج رغما عني …
الوجهة هي بلاشك غير واضحة المعالم لان المطلوب هو الخروج فقط من عالم الكوابيس ومملكة الرعب الصدامية .
لم يكن أمام العراقيين أي منفذ للتنفس من رئة العالم سوى الاردن لان كل الدول المجاورة للعراق كانت في حالة حرب مع النظام لسلوكياته العدوانية ولسياساته الرعناء …
في هذه اللحظات القاسية يقرر صاحب كتاب (مذكراتي) الخروج من العراق إلى الاردن التي هي المعبر الوحيد أمام العراقيين للخارج في ذلك الوقت ، يقول الدكتور خلف عبدالصمد : ( لقد فكرت باستمرار بالخروج من العراق ، ولقد راودني هذا الشعور بسبب الخوف من بطش البعثيين وارهابهم ، ولم يكن ذلك الخوف اعتباطيا لكوني مراقبا من قبل دائرة الامن ، وكان لزاما علي أن أذهب الى الامن بشكل دوري ومستمر ) ، ومع هذا الامل الذي بات يلوح أمام ناظريه الا أن المشكلة الأخرى التي تحول دون تحقيقه هي قضية الحصول على الجوازات له ولزوجته ، وكذلك العنصر المادي ، الذي يكبت طموحات الانسان ويردع مخيلته من أن تلامس أرض الواقع ..
لكن ومع هذه الحيرة هناك عناصر الخير التي تبقى مفاتيح للحل ، لان لله جنودا يضعهم في الطريق للقيام بدور العنصر المساعد ولتسهيل الامور ، ومن ضمن الذين اشار لهم الدكتور الأخ رياض العامود شقيق الدكتور ناجي العامود أستاذ الرياضيات في جامعة البصرة والذي اعدمه النظام العفلقي بتهمة الأنتماء لحزب الدعوة الإسلامية..
عائلة العامود عائلة بصراوية معروفة لها يد بيضاء على الكثير من المؤمنين الدعاة ومن ضمنهم بالطبع أنا شخصيا ، هذه العائلة لديها شركة نقل بحرية ، وبما أن ظروفي المادية آنذاك كانت صعبة حيث فقدت والدي في الطفولة وكنا في بيت ايجار في التنومة ، واخي تزوج امرأة متمردة ،حيث لم تمض فترة من الزمن حتى صعد البعثيون إلى الحكم ، فكانت الطامة هنا إذ كان اخوها احد المسؤولين المرموقين في هذا الحزب المجرم وهو (حسين حزبه)، الذي جرعنا الاضطهاد ، واجبر اخي على الخروج من المنزل والانتقال باخته إلى دور معمل الورق في الهارثة ، لابقى أنا ووالدتي وحيدين محاصرين مما اضطررت للعمل والدراسة معا ، حيث مارست كل الأعمال الحرة بما فيها البناء رغم ضعف حالتي البدنية ، ومع ذلك كنت الأول في جميع المراحل الدراسية ، وفي تلك الفترة تعرفت على الأخ
رياض العامود بحكم العمل الحركي الدعوتي ، والذي بدوره دعاني للعمل معهم في ميناء ام قصر مشرفا على البضائع التي تصل للميناء وملاحظة مدى سلامتها ، وكان هذا العمل مهما بالنسبة لي في ذلك الوقت ، مما ساعدني في توفير مبالغ الدراسة والكتب واعالة الوالدة ودفع الايجار ، هذا الشخص كان موضع حب واحترام ورجل المهمات الصعبة ، وذكرني به سعادة النائب الدكتور خلف عبدالصمد ..
المذكرات ترسم لنا عملية الخروج من العراق بعد أن تسهلت قضية الجوازات والحصول على المال ، وتصور لنا تلك المعاناة وما شابها من عقبات وعراقيل لتطأ اقدامه الاردن عبر منفذ طريبيل الحدودي، وهناك تجري حكاية أخرى من الغربة والمعاناة المؤلمة ، والأصدقاء الطيبين الذين يشاطرون الدكتور خلف محنته ، ويحاولون قدر المستطاع توفير سبل النجاة له ولعائلته للخروج من الاردن الذي كان بؤرة لتواجد الامن الصدامي ناهيك عن دور الاردن الخطير في مواجهة الحركة الإسلامية في العراق، وكلنا يتذكر دور الاردن في مساعدة النظام العفلقي باغتيال الشهيد محمد هادي السبيتي ( رحمه الله) الذي (يعد مهندس الفكر الدعوتي ومن القيادات الدعوية التي أسهمت في صياغة تاريخ الدعوة الإسلامية الى الحد الذي لا يستطيع الدارس أن يغادر مساحة تأثيره، إلا ويشعر بنقص في المعالجة او المعرفة بفكر وتاريخ حزب الدعوة الإسلامية، فكان صورة حية للمسلم الواعي والحركي ومصداقا حقيقيا للتعالي المعرفي على واقع الامة الإسلامية الذي كان ولا يزال يعاني من الامراض الاجتماعية والسلوكية والفكرية، وهذا ما دفع النظام وبالتعاون مع السلطات الاردنية لاعتقاله على اراضيها ونقله بطائرة خاصة إلى العراق وتعذيبه حتى الموت).
من هنا يمكن القول انه من الصعب البقاء في الاردن الذي يشكل مرتعا لمختلف اجهزة المخابرات الدولية والصدامية والصهيونية ، لذلك لم يجد صاحب المذكرات بدا من البحث عن منافذ للخروج ، يقول الدكتور خلف عبدالصمد في هذا المجال ( كانت هناك ثلاث خيارات مطروحة امامي آنذاك للخروج من الاردن ، والسفر اما إلى اليمن أو سوريا أو ايران ) بيد أن التخطيط الإلهي والمشيئة الإلهية رسمت للرجل الصابر المضحي الذي صمد بوجه اعتى وحوش الأرض وسجل ملحمة المقاومة ، مصيرا وطريقا آخر مع زوجته المضحية الصابرة التي كابدت معه كل صنوف المعاناة ووقفت إلى جانبه في احلك تلك الظروف ليمن الله عليهما بالفرج الذي كان بداية الطريق لقدر جديد ليمسح عن هذه العائلة المجاهدة وعثاء مرحلة العذاب والاخطار ويفتح امامهما مرحلة جديدة تمثلت بالخروج من الاردن ، يحدثنا الدكتور خلف عبدالصمد عن تلك الصدفة التي جمعته في الاردن بأحد اصدقائه من نزلاء سجن ابي غريب وهو الأخ حميد الذي بدوره يحصل على طريق للخروج الى أمريكا عن طريق اخي زوجته المقيم في امريكا ، ليتوسط هذا الصديق أيضا للدكتور خلف ويدفع نسيبه للقيام بدور المعين والداعم للدكتور لاخراجه أيضا ، وبالفعل تتحرك جاذبية عمل الخير هذه لتساهم في اختزال كل الظروف وتسهيل المهمة ليغادر الدكتور خلف وعائلته الكريمة الاردن يوم تشرين الثاني 1992 إلى كندا ، وهناك يلعب الفعل الإلهي أيضا دوره من جديد وتهبط الطائرة في هولندا كمحطة ترانزيت ، لتبدأ في هذه الساعات محطة أخرى من محطات الامل الجديد الذي بدأ يمد خيوط الجزاء الدنيوي لجهاد هذه العائلة المعطاءة ، كدليل على أن الجزاء الاخروي سيكون اعظم واجمل وأفضل مما يمكن أن تستوعبه العقول البشرية القاصرة.