المقالات

( مذكراتي) ح20 الانتفاضة الشعبانية وفجر الحرية


بقلم .. كريم وهاب عبيد العيدان…

الانتفاضة الشعبانية شكلت منعطفا كبيرا في المشهد العراقي، كما غيرت الكثير من معادلات الوضع العراقي داخليا وخارجيا ، وقد ساهمت مذكرات النائب الدكتور خلف عبدالصمد في اماطة اللثام وازاحة الستار عن تداعياتها واستحقاقاتها على مستوى السجناء في تلك المرحلة ، وساهمت في تشكيل الرؤية السياسية لمآلات النظام ، والمخاضات التي اوجدتها الانتفاضة الشعبانية في الموروث الشعبي ، وما شكلته في أحد ابعادها من تحولات على المستوى العالمي الذي اضطر إلى خلق مناخ سياسي جديد يتعاطى من خلاله مع وقائع المشهد العراقي الجديد ..
الدكتور خلف عبدالصمد يفتح لنا كوة من داخل سجن ابي غريب لنطل من خلاله لمتابعة تلك الأحداث يقول: ( بعد أن علمنا باندلاع شرارة الانتفاضة الشعبانية المباركة عام 1991 بدأ السجناء بالتخطيط للهروب ، والاستعداد لهجمات محتملة بالغازات الكيميائية من قبل البعثيين ،فكان السجين الدكتور حسين الشهرستاني يقوم بصنع اجهزة بسيطة من الفحم لنضعها على الأنف والفم في حال حدوث الضربة ، وغطى الشبابيك بنباتات جافة للتقليل من آثار الضربة الكيمياوية المحتملة، كما بدء بعض السجناء التفكير في كسر الشبابيك التي من خلالها يمكن الهروب وذلك عبر اضعافها ليتسنى لهم الهروب منها لو سنحت الفرصة ) ، وفي مكان اخر من المذكرات يضعنا الكاتب في تجاذبات تلك الأجواء عندما تم استفتاء المرجع اية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم المعتقل معهم في تلك الفترة ، فكان جوابه متحيرا ، فهو لايفتيهم بالهروب لان السجن في الصحراء ومكشوف مما يضع حياة الهارب في خطر ولا يمنعهم من الهروب لان من المحتمل أن يقوم جلاوزة النظام بتصفية السجناء انتقاما أو تخلصا منهم.
اذن الأجواء السائدة في ذلك السجن هي مزيج من الخوف مما يمكن أن يصدر من النظام اتجاههم سواء باستخدام الكيمياوي ضدهم في اللحظات الخطيرة وهو السلاح المفضل لدى النظام للانتقام من خصومه، أو يقوم بتصفيتهم ميدانيا لكي يحول دون هروبهم أو ربما انقاذهم من قبل المنتفضين.
اما هاجس الهروب فهو طبيعي ينسجم مع الغريزة البشرية التي تحاول الانفلات من أي وضع يحول دون حصولها على حريتها التي منحها الخالق لها ، وهذا هو ديدن الانسان وطبيعته البشرية ….
بالطبع وحسب المعلومات التي عاصرتها باعتباري كنت وقتها مسؤول التحرير في صحيفة الشهادة وكلفت من قبل رئيس وحدة الثقافة والإعلام وقتها في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق المفكر الأستاذ عز الدين سليم بالاشراف على خلية العمل لدعم الانتفاضة الشعبانية،كان لدينا الكثير من المعلومات التي تؤكد بأن احد أهداف الانتفاضة التحرك نحو السجون الصدامية ، وتحرير المعتقلين والسجناء من قبضة المجرمين و محاسبة المسؤولين عنها ، اما مايتداول في الإعلام من أن الانتفاضة كانت مجرد ردة فعل على ألانسحاب الصدامي المهين والذليل من الكويت وان شرارتها تمثلت في إطلاق احد الجنود المنسحبين النار على صورة الطاغية صدام في ساحة سعد في البصرة ،فانها قد تكون ذات مصداقية في جزء منها الا أن الانتفاضة كانت مدروسة أساسا من قبل الحركة الإسلامية ومن الدعاة سيما وان كل الأجواء السياسية داخليا واقليميا وخارجيا كانت مواتية ، كما ان الجيش والقوى الامنية في حالة انهيار حقيقي ، کما ان الشعب العراقی مل مغامرات الطاغية صدام وحروبه العبثية ، اضافة إلى أن الحركة الإسلامية استطاعت إعادة هيكلة خيوطها وخطوطها الحزبية مما رفع من منسوب التاييد والالتفاف الشعبي والعشائري حولها مما ساهم في حالات الاستقطاب وفي حالات الحراك الشعبي ،والدليل على أن الحركة الإسلامية هي من تقف وراء تلك الانتفاضة هو انتشار صور الشهيد محمد باقر الصدر وصور الشهيد السيد الحكيم ،ناهيك عن ظهور وانتشار الأسلحة في المدن العراقية فی الجنوب والوسط ، اضافة إلى الشعارات والاهازيج التي تؤكد اسلامية الانتفاضة ، ونضوجها لدرجة كانت تؤهلها لاستلام السلطة ، هذه التجليات والحقائق اذهلت منظري السياسة الأمريكية التي كانت تخطط لاسقاط النظام عبر مشروعها التامري وبالمقابل لاتسمح للمنظومة الحزبية الإسلامية الشعبية أن تكون البديل للنظام الذي اوجدته للقضاء عليها ، وعلى ضوء هذه المعطيات وبعد أن تكشفت هزالة النظام وان سقوطه بات قيد قوسين أو أدنى سارعت للتدخل المباشر والمعلن لتغيير المعادلة والحفاظ على النظام ليكون مجرد جثة محنطة تسقطها وقتما تشاء ، ولكن وفق ظروف داخلية واقليمية مدروسة ومبرمجة ، وعلى اساس استحقاقات موجهة تخدم في جزء منها بعض المطالب الشعبية ،وهذا ما حصل بعد انحياز أمريكا لصالح معادلة الرعب الصدامية مقابل فتح حدود السعودية لإخراج المنتفضين لتشكل معادلة أو نافذة أخرى لصناعة الوضع القادم في العراق ..
هذه المعطيات الجديدة اسقطت مشروع الانتفاضة على أرض المعركة بشكل وقتي لكنها لم تلغ تجلياته في إسقاط هيبة النظام واضعاف بنيته الامنية ، لذلك حاول النظام التقاط انفاسه بعد الانتفاضة حيث عمد إلى التظاهر بالقوة الامنية عبر مسرحيات الإعدام التي طالت بعض السجناء كما اشار إلى ذلك الدكتور خلف عبدالصمد في مذكراته ، كما ان المرجع اية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم تعرض للتعذيب الشديد في رسالة كبيرة للمعتقلين بأن النظام مازال قويا ولا يكترث بالمعارضة مهما كان موقعها الديني أو الشعبي لان ملاكه الأول والاخير هو البقاء في السلطة ولو على جماجم الشعب ، بيد أن مفاعيل الانتفاضة الشعبانية ظلت تأكل كينونة واساسيات حزب البعث ، فيما تواصلت عملية القضم البطيء في كل مكوناته ومفاصله الحزبية والامنية ليضطر بعد ذلك للاذعان والخضوع لاستحقاقات الواقع الذي افرزته الانتفاضة الشعبانية ويقوم باطلاق سراح السجناء من التيارات السياسية ومن ضمنهم حزب الدعوة الإسلامية، ومنهم بالطبع الدكتور خلف عبدالصمد الذي أطلق سراحه في التاسع والعشرين من كانون الأول عام 1991 ولكن مع بقاء ثلة أخرى في سجن ابي غريب كورقة محترقة لاتسعفه من مصيره المحتوم ، ويذكر الدكتور خلف عبدالصمد عددا من اسمائهم ، وبالتالي تكون احداث الانتفاضة الشعبانية بمثابة الاسفين الذي دق في نعش النظام الصدامي لتفتح فيما بعد رياح الهدم الداخلي لتساهم بشكل مباشر في انهاء وجوده اللاشرعي وترمي به في مزابل التاريخ.

كريم وهاب العيدان

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

gadunslot link

sweet bonanza slot

FacebookTwitterYoutube
إغلاق

https://estheticsadvancedclasses.com/

slot jepang