(مذكراتي) ح 18 رحلة إلى المجهول
بقلم .. كريم وهاب العيدان
بعد محاولات الانتحار المتكررة بات واضحا أن الطريق للموت لم يكن ذي اهمية بالنسبة للدعاة ، طالما أن الشخص يبحث عنه في ذروة الانعتاق من الواقع القسري الموبوء بفيروسات القتل والدمار والفساد …
وبات واضحا أن اساليب التعذيب لم تكن قادرة على هز شموخ وصمود هذه الثلة المؤمنة….
كتاب (مذكراتي) للدكتور خلف عبدالصمد ياخذنا هذه المرة إلى رحلة عذاب أخرى بعد أن ذاق مرارة التعذيب والالم في مديرية امن البصرة ، ففي أحد الايام تم نقل اعداد من المعتقلين ومنهم بالطبع صاحب المذكرات إلى باص مكتوب عليه ايس كريم في محاولة للتمويه على هوية المسفرين إلى المجهول ، هذه الرحلة كانت نموذجا آخر للاجرام العفلقي الذي يطال الانسان والفرد العراقي ، حيث لاقيمة ولامكانة ولا اهمية للإنسان في قواميس هذا النظام العفلقي .
الكاتب يضعنا في عمق المشهد عندما يصور لنا التراكم البشري في هذه السيارة والمصاطب الخشبية والمرضى المرصوفين عليها من المعتقلين بصحبة حراس من قوات الامن….
في زحمة هذا المشهد يخيم الاختناق على هذه المجموعة فيما يطل عنصر الموت على المشهد لوجود معتقل في حالة يرثى لها وهو الشهيد عقيل السهلاني الذي كان في اصعب حالاته وعدم قدرته على تحمل السفر الطويل من البصرة إلى بغداد في تلك السيارة المتهرئة…
السعال والتقيؤ والالم المضني والروائح الكريهة كانت هي انيس تلك الاجساد المعذبة المترهلة التي لاتقوى على مواجهة وضع كهذا بعد أن اضنتها سياط الجلادين من الوحوش البعثية …
وسط أجواء الوجع والعذاب والاختناق والروائح الكريهة يتمخض بعد جديد تمثل في تدلي نور يبحث عن قربان جديد في مسيرة ملحمة المقاومة والاباء ورغم استغاثة المعتقلين بحرس الامن لانقاذ المعتقل السهلاني الا أن هؤلاء كانوا يسخرون منهم ويقهقهون مما يفضح واقع هذه الزمرة الارهابية التي لاتتصل بالواقع الانساني باي صلة على الإطلاق…
المعتقل السهلاني رحل قبل الوصول إلى مديرية امن بغداد وبدل أن يعاقب النظام حراس الامن عوقب المعتقلون بذريعة نقص المجموعة من شخص رغم أن هؤلاء یعرفون حقیقة الأمر …
وفي مديرية امن بغداد يبدأ فصل جديد من الألم والوجع والعذاب ، فكاتب المذكرات وضع في زنزانة ممتلئة بالمعتقلين مما يجعل من الصعب النوم أو الجلوس لذلك تم ابتكار نظام نوبات النوم والجلوس بين هؤلاء المساكين ..
بالطبع يكشف لنا الكاتب الوضع النفسي القاسي الذي يعانيه هؤلاء ، فكل حاجات الانسان غائبة وكل حقوقه مغيبة حتى حق العبادة من صلاة وصيام محظورة لدرجة أن جلاوزة النظام يتفنون في ايذاء الصائمين ، فهم مع الغروب يقطعون الماء عنهم ، كما يقدمون وجبات فاسدة أو قليلة جدا ، وذلك من اجل الحيلولة دون أداء هؤلاء واجبهم الديني المقدس ….
يقول الدكتور خلف عبدالصمد في هذا الصدد (كانوا يقطعون المياه وقت الغروب في شهر رمضان المبارك ايذاءا للمعتقلين الصائمين ) …
كل شيء مكدس بالموت وسط الخوف وفقدان الامل بالحياة كانت انفاس المعتقلين تتزاحم في السقف لتتحول إلى قطرات ماء تضايق هؤلاء الموتى الأحياء.
يقول الدكتور خلف عبدالصمد ( كنا نعاني من سقوط قطرات نحسبها بسبب خلل في أنبوب المياه العلوي إلا أنه ومع مرور الزمن اكتشفنا انه من كثرة المعتقلين وضيق الزنزانات تتحول انفاسهم إلى بخار يصطدم بسقف الغرفة ليعود إلى قطرات ماء )..
وخلال رحلة الموت البطيء وماتعرض له كاتب المذكرات من احداث ومآس وصعاب ترسبت في قعر تلك المرحلة متغيرات هي الأخرى منتزعة فی سياق مآلات ذلك المشهد القسري ..
ومن اهم هذه المآلات هو الاستدعاء إلى مايسمى محكمة الثورة السيئة الصيت يقول صاحب المذكرات الدكتور خلف عبدالصمد ( اصعدوني للمحكمة برفقة معتقلين هما الشهيد عادل رحمة والشهيد عاشور حنون ، حيث كان يترأس تلك المحكمة المجرم عواد البندر ) ،
اشتهر المجرم عواد البندر بأحكامه الجائرة ضد ابناء الشعب العراقي..وقد تداولت حكايات احكامه المثيرة للعجب في اوساط المجتمع العراقي..
وفي احد مقالات القاضي زهير كاظم عبود يسرد علينا مشهدا يصور مدى عبثية احكام هذا المجرم حيث( أنه عندما وقف امامه 30 سجينا سياسيا صفا واحدا يتوسطهم سجين من اصحاب البشرة السمراء فحكم عليهم دفعة واحدة فقال: (من ابو سمرة وعلى اليمين اعدام ومن ابو سمرة وعلى اليسار مؤبد..
و يؤكد المتابعون لتاريخ هذا المجرم انه تحول بين عشية وضحاها من موظف أداري مغمور الى رئيس لأخطر الأجهزة الحكومية التابعة لرئاسة الجمهورية، متمتعاً بحقوق المدراء العامين والدرجات، ومتنعما بمكارم الطاغية صدام وعطاياه، وبحماية الأمن الخاص.
غير أن البندر بعد إن صار رئيساً لمحكمة الثورة حاول إن يثبت ولاءه للحاكم بأصدار أشد القرارات قسوة في أبسط القضايا الجنائية، وأشتهر أيضا بقسوته وسوء ألفاظه على المتهمين، وصار البندر مشهوراً في العراق لصيقاً بمحكمة الثورة، والتي ضج العراق بأحكامها الظالمة، حيث أصدرت المحكمة في عهده العديد من أحكام الإعدام بحق الأبرياء من اهل العراق دون تدقيق ودون وجه حق، وفي العديد من الأحيان الإعدام لأناس يتشابهون في الاسم أو دون السن القانونية المسموح بها، كما حدث في قضية الدجيل التي اعدم فيها 148 شخصا بتهمة محاولة اغتيال الطاغية صدام.
وكان البندر لايمنح المتهم أية فرصة ويستهين بالمحامين والحقوقيين،
ولعل أخزى ما كشفته التحقيقات انه اصدر احكاماً بحق عراقيين ماتوا تحت التعذيب، حيث أصدر حكمه بأعدامهم بعد موتهم تبريراً لذلك الموت، وقد نال حقه
بالاعدام بعد سقوط النظام الفاشستي).
واثر وصول المتهمين الى تلك المحكمة الارهابية جرت محاكمة صورية لهم تخللتها مواقف بطولية للشهيد عادل رحمة الذي إجاب بشجاعة على المجرم البندر بعد سؤاله ( ليش اشردت من البصرة إلى كربلاء ) قائلا : لجأت الأمام الحسين(ع) طلبا الامان ايمانا مني بالقول (ماخاب من تمسك بكم وآمن من لجأ اليكم) ، مما اصاب البندر بالخوف وزلزل قلبه الجبان ، حيث حكم عليه وعلى عاشور حنون بالاعدام فيما كان نصيب كاتب المذكرات السجن المؤبد ، ليسدل الستار على تلك المرحلة القلقة الملبدة بغيوم التعذيب والوحشية بانتظار مرحلة جديدة غير واضحة المعالم إلا أنها اقل وحشية واخف الما من سابقاتها …
اما لماذا تمت المحاكمة بتلك المرحلة ، ولماذا تم استثناء واحد من المحكومين الثلاث بالاعدام ، هذه التساؤلات لابد منها ، إذ لم تكن مكرمة من النظام بقدر ماهي محكومة لتطورات ومعادلات سياسية داخلية وخارجية ، فعلى المستوى الداخلي فان الحرب العراقية الايرانية دخلت استحقاقات جديدة ، ولم تعد المعادلة كما يتمناها النظام ، ناهيك عن تصاعد الرفض الشعبي للحرب واتضاح الأهداف الحقيقية الكامنة وراءها ، اما على المستوى الخارجي فإن المعارضة العراقية نجحت في ايصال صوتها للراي العام العالمي وفضحت جرائم النظام وعدوانيته ،واتذكر وقتها أن صحف المعارضة آنذاك قدمت وثائق وادلة إلى عمليات الاعتقال الوحشية للنظام وعمليات الإعدام العشوائية التي يقوم بها النظام الطاغوتي ضد المعارضة واهم تلك المنابر الاعلامية جريدة الجهاد الناطقة باسم حزب الدعوة الإسلامية اضافة إلى جريدة الشهادة الناطقة باسم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق والتي كنت سكرتير التحرير فيها عام 1983 مما كان له الاثر الكبير في تخفيف النظام من سلوكياته الهمجية ومن عمليات الإعدام التي اعتقد أنه قد يستفيد من المعتقلين في القادم مع الأيام بعد تحول عدوانه إلى ايران إلى كارثة حقيقية حلت بالعراق والمنطقة وبعد أن تنكر له اسياده الأمريكان والدول الرجعية في المنطقة …