المقالات

(مذكراتي) ح 22 هولندا والسلام الروحي

بقلم .. كريم وهاب عبيد العيدان …

كانت فكرة طلب اللجوء من قبل الدكتور خلف عبدالصمد وعائلته هي الحل باعتبار أن الترحيل للاردن يحمل في طياته الكثير من المخاطر ، كما ان اللجوء هو المخرج لمواجهة الوضع الجديد الذي فرضته معطيات الواقع في العراق بعد الخلاص من براثن السجن والاعتقال.
في هولندا يختلف الوضع اختلافا كثيرا وتتحكم القوانين باصولها ومواردها بحيث يعم النظام ويسود السلام ، وتتجلى قدرات وابداعته بشكل مبهر طالما أن الحكومة تتبنى ذلك وتحث وتشجع عليه …
قراءة مذكرات الدكتور خلف عبدالصمد في هولندا تقودنا إلى تطور في البعد النفسي والروحي ، كما تكشف لنا عن ارهاصات جديدة في العمل السياسي والاجتماعي ، حتى طابع كتابة المذكرات في هذه المرحلة يختلف حتى في انتقاء المفردة وفي اختيار الحرف ، مما يشي بوجود روحية جديدة تتحفز لصنع الحياة والمستقبل.
منذ اللحظات الأولى لوصوله إلى هولندا تتسمر العيون على الواقع الجديد الذي جسدته القوانين الانسانية في هذا البلد حيث يحاط طالب اللجوء بالاحترام بانتظار دراسة طلبه ، وأسباب لجوئه ، على عكس بلدان عالمنا الثالث مع الأسف.
فالدكتور يصور لنا الساعات الأولى في هولندا على أنها نقلة كبيرة حظي فيها بالتفهم ، خاصة وان الظروف القاسية التي مر بها كانت موضع اهتمام من المسؤولين الذين منحوه اللجوء بوقت قیاسی ، لان قضية الاعتقال والتعذيب تعتبر في غاية السوء بالنسبة للانسان .
لذلك يقول الدكتور خلف عبد الصمد في مذكراته ( الشخص الذي قابلنی عندما سمع حدیثی عما تعرضت له من التعذیب في العراق قال لي لو كان بيدي لاعطيتك اللجوء الآن ) ولكن جواب السلطات الهولندية لم يتاخر (وجاء جواب السلطات الهولندية بشكل سريع وغير متوقع بقبول اللجوء السياسي) .
هذه الاجواء ، وهذا التعاطي الانساني دفعه للتحرك على عدة مستويات ذاتية واخرى اجتماعية تعكس لنا مدى الرغبة في تفعيل مختلف الجوانب المعرفية والابداعية النابضة لديه لتكون مدخلا لعطاء جديد ومتميز ….
الكتاب يضعنا في أجواء تلك الروحية المشتعلة لديه حيث تتفجر لديه الرغبة في استكمال دراساته العليا حيث يقول ( بعد استقرارنا .. فكرت في اكمال دراستي ، وما دفعني لذلك هو كوني من الطلبة الاوائل في العراق ورغبتي أن أكون تدريسيا في الجامعة ، فضلا عما تعرضت له من ظلم علني على يد البعثيين عندما حرموني من اكمال دراستي).
صاحب المذكرات كان يتطلع لاستكمال الدكتوراه في علم الوراثة وذلك للامتياز الحاصل عليه في العراق ، بيد أن تدريس هذا الاختصاص كان باللغة الهولندية مما شكل اعاقة للتقدم عليه كما ان رئيس قسم الوراثة نصح الدكتور خلف عبدالصمد بعد اطلاعه على وثيقة التخرج، التخصص في علم الأسماك، وهذا أمر مهم يعكس مدى المتابعة من قبل رؤوساء الاقسام لتوجيه الطالب واكتشاف مواهبه..
وهذه الخطوة مرتبطة بخطوات أخرى لترجمة هذا الامل إلى واقع عملي ، حيث يتطلب الأمر إلى تسديد تكاليف الدراسة ماليا ، وهو مالم يكن صاحب المذكرات قادرا عليه بيد أن الجامعة ومرة أخرى تخلصه من الاحراج حيث تتكفل هي بتغطية هذه النفقات لتفتح الأفق على مصرعيه لتجاوز هذه الاشكاليات كما ان الدائرة الاجتماعية نصحته بالسكن في مقر اللاجئين تخلصا من تكاليف الاقسام الداخلية ، هذه المعطيات تشكل عملا حضاريا جديرا بالاحتذاء في بلداننا للحاق بركب الامم المتقدمة.
هذه المرحلة تعتبر شاقة لانسان قادم من السجون والاضطهاد ، وهو منقطع لسنوات عن الدراسة والعلم وكل أشكال التواصل الثقافي ، كما ان الدكتور وبعد حصوله على السكن الدائم بات يعاني من المجيء للجامعة والعودة للمنزل ، حيث تستغرق عملية الذهاب للجامعة ساعتين ، يقول الدكتور ( كنت اركب القطار من مدينة الميرا إلى امستردام ومن امستردام إلى
ايدا- فاخننكن بقطار اخر ومن ثم اركب حافلة نقل عام ، لذلك أخرج قبل اذان الفجر واصلي في محطة امستردام ، واعود بعد صلاة المغرب للبيت ) ويعزو الدكتور تحمله لهذه الرحلة اليومية المتكررة بالقول ( السبب في تحملي لهذه المشقة رغبتي الشديدة في اكمال دراستي ، بسبب حرمان البعثيين لي من اكمالها).

اذن نحن أمام جهاد آخر من قبل صاحب المذكرات تمثل في هذا النمط من الصبر الاستراتيجي والصمود لاستكمال رحلته العلمية ليقدم الأفضل والاجمل للانسانية المتطلعة إلى فجر جديد .
هناك لمسات حضارية تتخلل هذه المذكرات من قبيل نموذج الحياة الانساني والتطوع الاجتماعي لمساعدة الاخرين وادخال السرور عليهم ، ومن قبيل البيئة الصديقة ، والتي يتم التعامل معها من خلال ركوب الدراجات الهوائية ، وهذا الاهتمام يتجلى في فتح دورات تعليم لركوب هذه الدراجات ، كما يجبر الطلاب على التنقل بين الاقسام على هذه الدراجات ناهيك عن تخصيص طرق وشوارع خاصة لقيادة الدراجات مما يوضح الجانب الجمالي في التعاطي مع البيئة .
واتذكر اني طرحت مقترح الفضاء الأخضر على رئيس المجلس البلدي في البصرة آنذاك الصديق حجي ابو صفاء، محمد العبادي باعتباره كفيل باحداث التوازن المناخي للمدينة، واعادتها إلى سابق عهدها كعروس في المنطقة الخليجية.
اما العمل التطوعي الخيري في هولندا فهو صورة عاكسة للواقع الانساني الذي من المطلوب أن يبصم محطات الحياة بسماته الاريحية المبدعة لتمضي الحياة متفاعلة مفعمة بالخير والعطاء ، حيث يقول الدكتور خلف عبدالصمد في هذا المجال (الشعب الهولندي ، شعب ودود متعاطف مع الاخر ، ولمست ذلك فعلا ..لأنهم كانوا يعتقدون ان ذلك يقربهم من السيد المسيح ).
ان صداقة البيئة وصداقة الانسان هي عناوين كبيرة تنقذ البشرية من المشاكل المعقدة التي وقعت فيها جراء البحث عن التسلط واستعباد الاخرين ، كما هو حال الأنظمة الطاغوتية والقوى المستكبرة في العالم .
في هولندا نجد الدكتور خلف عبدالصمد يكتشف تلك المعاني الجميلة التي عشناها في صفحات الكتب ويحاول أن يمدنا من تلك الومضات ما يمكن أن يتحول إلى حافز للاجيال القادمة لكي تحوله إلى طاقة عمل وتطوير وازدهار بما يخدم تطوير البلدان ويهذب الانسان.

كريم وهاب العيدان

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

gadunslot link

sweet bonanza slot

FacebookTwitterYoutube
إغلاق

https://estheticsadvancedclasses.com/

slot jepang