تقاطع دوال الصرف في العراق عند نقطة تعادل السوق
بقلم الكاتب .. د. مظهر محمد صالح
.
.
.
ينفرد البنك المركزي العراق بكونه القوة المتحكمة بدالة عرض غير مرنة في سوق العملة الاجنبية في بلادنا لمواجهة دالة طلب السوق المرنة نسبيا على النقد الاجنبي وبشكل مستمر دون توقف وتحت اي ظرف . ويأت تدخل البنك المركزي المستمر في سوق الصرف وحماية استقرار معدالت أسعارها ضمن سياسته النقدية التي مازالت تعرف بأنها فن ادارة التوقعات لتكون بمثابة اداة تتوىل امتصاص زخم الانخفاض المفاجئ Shock Absorber بقيمة الدينار العراقي وبنسبة ٢٠ ٪ نسبة الى دولار الولايات المتحدة الامريكية وهو التخفيض الذي ماثل حالة العجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات والتي بلغت في نهاية العام 2020 بنحو ( -20% ) ايضا وعلى وفق التقديرات الاولية التي أطلقها صندوق النقد الدولي في نهاية العام المذكور ، فانكماش الطلب على العملة الاجنبية بالمدة القليلة الماضية ، اي منذ تاريخ 19_12_2020 ( وهو تاريخ التخفيض الاخير للدينار العراقي) جاء لسببين :
اولهما، التوقف او التعثر في شراء العملة الاجنبية من السوق المركزي للصرف (اي المزاد او النافذة) بسعر الصرف الجديد البالغ 1450 دينار\دولار وذلك لامتصاص المفاجأة او الصدمة السعرية جراء انخفاض سعر الرصف دفعة واحدة بنسبة ٢٢ ٪إذ جاء التخفيض بأسلوب (الصدمة) وولادة حالة من اللايقين uncertainty لدى صناع السوق
والمتعاملين فيه، أحدثت توجهات سعرية تعاظمت فيها نسب مخاطر الاسعار عموما وسعر الرصف ، خصوصا فضلا عن اختلال سبل تسوية المديونية والحقوق الناشئة بين اطراف المتعاملين بعد ان تجمدت التعاملات (الفورية) للبيع والشراء بالعملة الاجنبية الا استثناءً، ذلك لتسوية التعاملات (الآجلة) بين القوى الدائنة والمدينة بالعملة الاجنبية نفسها .
ثانيهما، قد نجم عن قوة سوق المعلومات الملونة color Information Market وكثرة الاشاعة التي ظلت تعمل كمعلومة مؤثرة مشوشة color noise خلال الاسابيع القليلة الماضية والمضاربة على نقاشات مجلس النواب العراقي بخصوص الجدل الدائر حول سعر صرف الدينار العراقي في الموازنة العامة الاتحادية للعام 2021 وتطلع المضاربين الى احتمالات تعديل سعر صرف الدينار ليبلغ 1300 دينار \ دولار لأغراض الموازنة والعودة ثانية كي يتعامل به البنك المركزي العراقي مجددآ . وعلى الرغم من ذلك لم تظهر مناقشات مجلس النواب لمشروع قانون الموازنة العامة الاتحادية للعام 2021 بأن هناك نية قوية للتراجع بسعر الصرف ورفع قيمة الدينار العراقي ازاء الدزلار الامريكي من 1450 دينار\دولار الى 1300 دينار\دولار سوى جمع تواقيع عدد من الذوات اعضاء مجلس النواب للمناشدة بتعديل السعر وجعله 1300 دينار\دولار اذ مازالت المعلومة غير مرئية في تكوين الاتجاه الجديد لتحديد السعر في سوق الصرف . وبناء على ماتقدم ونظرآ لتكيف السوق الموازي للصرف والزحف التدريجي اليومي خلال الاسابيع الخمسة الماضية نحو نقطة تعادل يعتمدها سوق الصرف المركزي في التعاطي بالسعر الرسمي الثابت للصرف، اذ بدأت السوق تنخفض في معدلاتها مقارنةً بسعر الصرف المركزي المعتمد في نافذة البنك المركزي العراقي مؤخرآ، ما يؤكد ان السوق قد تعاطى مع قوة اشارات البنك المركزي بتغيير توقعاته وامتص (الصدمة السعرية) وعاد الى وضعه شبه الطبيعي طالبآ العملة الاجنبية من نافذة البنك المركزي بشكل متصاعد، ولاسيما بعد ان اعلنت السلطات الرسمية عن دفع مرتبات الموظفيين ومعاشات التقاعد وغيرها وعلى وفق الوقيتات المحددة لها في شهر كانون الثاني 2021، مايعني ان قوى الصرف الروتينية الكبرى بالدينار العراقي قد عاودت نشاطات انفاقها المعتادة في الاقتصاد كقوة صرف فعالة مستمرة مما ستشكل موجة طلب كبرى على العملة الاجنبية من نافذة البنك المركزي في الايام القادمة، وهذا مايفسر ارتفاع مبيعات البنك المركزي من العملة الاجنبية من 3 ملايين دولار الى 112 مليون دولار وبصورة مفاجأه!
وازاء بدء الخزين السلعي بالتناقص بعد تعثر الاستيرادات على مدار شهر ونيف من تاريخ تخفيض سعر الصرف، فأن النشاط الاستيرادي للقطاع الخاص قد زاول اعماله بعد ان اعد مرتسم تسوية مديونيته البينية واستقرار سبل تمويل تجارته الخارجية مجددآ. اذ تشكل المستوردات ذات الطبيعة الاستهلاكية قرابة 85% من احتياجات السوق المحلية العراقية، فضلآ عن اهمية استمرار تدفق لوازم الانتاج المستوردة التي تشكل احد الاساسيات التشغيلية الرئيسية في مخرجات الانتاج المحلي نفسه (سواء اكانت المدخلات موضع البحث قطع غيار او مواد اولية مختلفة وغيرها).
فعلى سبيل المثال، تشكل مستلزمات انتاج بيض المائدة المحلي المستوردة قرابة 75% من قيمة المنتج او أكثر وهي سلعة تقع في نطاق الانتاج الحيواني في الزراعة المحلية العراقية. وبالتأكيد فأن انخفاض سعر صرف الدينار العراقي ازاء الدولار الذي بلغ 22% سينعكس بصورة تضخم مستورد على اسعار السلع والخدمات بشكل مباشر على المواد المستوردة وبشكل غير مباشر على المنتج المحلي السلعي والخدمي، وقد تتفاوت الارتفاعات السعرية (فوق حدود الانخفاض في سعر الصرف آنفآ) تبعآ لعاملين اساسيين: الاول، الرسوم الجمركية وضريبة الدخل على ارباح المستوردين والتي يجري نقل آثارها مباشرة على اسعار المستهلك بنسب مختلفة (اضافة الى انخفاض سعر صرف الدينار نفسه).
والثاني، مايسمى بمرونة الطلب السعرية على السلع والخدمات المستوردة فأذا كانت المرونة السعرية عالية (اي ارتفاع صغير في السعر يؤدي الى انخفاض اكبر في الطلب) فأن نقل عبء الرسوم والضرائب الجمركية على عاتق المستهلك ستكون اقل مقارنة بالسلع المنخفضة المرونة التي يطلبها المستهلك حتى لو ارتفع ثمنها، ونقصد بها وبشكل خاص تحديدآ السلع والمواد الغذائية والطبية والضرورات السلعية الاخرى .
ولتجنب آثار التضخم المستورد وآثار الرسوم والضرائب الجمركية ذات العلاقة على قطاعات المستهلكين في آن واحد وآثارها على مستوى المعيشة ، فينبغي ان تعدل جداول التعرفة الجمركية costume norms بشكل يتناسب ومرونات الطلب السعرية المذكورة آنفآ. فكلما كانت مرونة الطلب السعرية المنخفضة (اي ان الطلب غير مرن) فيجب ان يعدل الرسم الجمركي نحو الانخفاض النسبي وبشكل محسوس وهنا نقصد تحديدآ المواد الغذائية والادوية وغيرها من السلع ذات المساس المباشر بحياة الناس والعكس بالعكس.
منوهين الى اهمية البطاقة التموينية PDS ودورها المعيشي وهي تمثل دعمآ غذائيآ للطبقات الفقيرة والشرائح التي تستهدفها برامج الرعاية الاجتماعية وبرامج التخفيف من الفقر لضمان مستوى معيشة تكفل حياة المواطن.
ختامآ، لابد من ان تؤدي السياسه المالية دورها الاجتماعي التوزيعي في مكافحة الانشطة التضخمية المحتملة على المستهلكين من الطبقات الفقيرة والمتوسطة جراء انخفاض سعر صرف الدينار والرسوم والضرائب ذات العلاقة وتجنب آثارها (كضريبة تضخمية موجبة) وتحويلها الى (ضريبة تضخمية سالبة) على القوى والشرائح الاجتماعية من الفقراء او ذوي الدخل النقدي المحدود وتعويضهم نتائج انخفاض سعر الصرف وتطوراته التضخمية .اذ يرتفع الطلب على المواد الغذائية والحياتية الاساسية لدى الطبقات الفقيرة والمحدودة الدخل الذي يستنزف جُل دخلهم النقدي المتاح لهذه الشرائح الكبيرة من المجتمع والتي يضرب الفقر من خلالها حاليآ مايزيد على 30% من سكان البلاد.