المقالات

السلطان العاقل والعقل الجاهل

بقلم : هادي جلو مرعي ..

إستعصى على السلطان فهم الطريقة التي يفكر فيها قومه، فكلما إنجز عملا لصالحهم سخروا منه، وشتموه، وحركوا السفهاء من بينهم ليثيروا غبار الفتنة في وجهه حتى ظن أنه يحكم قوما مجانين لاشفاء لهم، وقد ذهبت عقولهم الى الأبد. فكلما شق نهرا قالوا: ماذا يفعل هذا المجنون، فضحكوا، وإذا رصف طريقا قالوا: يعبد الطريق ويتركنا نعاني من الحرمان، ثم يتحدثون عن بناء الإنسان، وضربوا مثلا في الصين التي قرر حكامها أن يقيموا سورا عظيما حول بلادها يقيهم هجمات الأعداء، وتفاخروا به، وصار من عجائب الدنيا، ولكن الأعداء الذين فشلوا في تجاوز السور إلتجأوا الى طريقة أخرى، وقاموا بشراء الحراس الذين فتحوا لهم الأبواب، فتنبهوا الى خطأهم حين إعتنوا بالسور، ونسوا قبل ذلك الإعتناء بالحارس الذي يحمي السور، وعلى قاعدة بناء الإنسان قبل الأوطان، ولكن ذلك وحده لايكفي أيضا وسط الفوضى الكونية التي يعيشها العالم.
العراق مثلا.
في هذا البلد دخل الإنجليز عام 1917 وحكموا بعد مئات من السنين كان العراق فيها تحت سطوة العثمانيين، وكان الجوع والمرض والخراب والحرمان يطبع حياة الناس، وكان الولاة العثمانيون لايعترفون بوجود بشر، وكان همهم تحصيل الضرائب، ونهب ماإستطاعوا وما وجدوا فيه قيمة، وحين إنتهى زمنهم تحول العراق الى محمية بريطانية فتحت أعين العراقيين على التحديث، ولكن ذلك لم يكف فقد ركزوا على مصالحهم أكثر بالرغم من قيامهم بإنشاء النوادي الترفيهية والموانئ والمدارس الحديثة، وبعض الطرق ومد السكك الحديدية، وتركوا بعض التحديث والعمران، وسمحوا بقيام الدولة الملكية التي قامت بوضع أسس دولة أنشأت ماسمي مجلس الإعمار الذي أخذ على عاتقه القيام بتحديث الدولة، ولكن الإنسان العراقي كان آخر هموم السلطان، ثم أسقطت الملكية، ودخل العراق في دوامة الصراع بين المكونات العرقية والدينية، ومن إنقلاب الى إنقلاب حتى صار العسكر يحكمون، ولم يكن من أمل، حتى إذا جاءت ثورة تموز، ومضت الأيام، وحكم صدام، وغنت مائدة نزهت:
حياك يابو حلا يابهجة الأيام
دخل العراق في دوامة الحرب والموت والديون والعذابات والتهجير، وصارت ثقافة الناس تمجيد الحاكم، والتضحية في سبيله، وبين ضحية، وبين مؤمن بذلك النظام غابت مشاريع التنمية، وبعدها كانت حرب الكويت، ولعبة الحصار القاتل، فصار أطفال بغداد يدخلون مستشفى الإسكان غرب العاصمة، ويغادرونه في توابيت وضعت على سيارات التاكسي تجوب شارع 14 رمضان، والفنانة العربية العظيمة (رغدة) تشيعهم الى المقابر، وصرنا نغني في ساحات الكليات والجامعات: فلتسقط أمريكا فلتسقط، ونضع العلم المنجم مرسوما على الأرض، وندوسه بأقدامنا فرحين، بينما الحصار جعلنا نتشارك الطحين مع جلود الأفاعي والفئران الصغيرة الميتة، وكنا نأكل بيتزا مطحونة دون أن نشعر، حتى إذا جاءت الأمبراطورية السادسة وإحتلت العراق بنفسها في العام 2003 وسلمته الى الفوضى عاش الناس تجربة مختلفة قاسية مريرة بين فوضى الحكم، والتنافس على السلطان، وسرقة الأموال العامة، والدخول في دوامة الحرب الطائفية، وتدخلات الخارج، ودخول المشاريع التي لاجدوى منها للعراقيين كانت الآمال تتضائل، وكنا نتوارث عن آبائنا وأجدادنا عقد الحرمان والتهميش والتمييز بين قومية وأخرى، وطائفة وأخرى، وحتى اللهجات المحلية التي يراها البعض معيبة فكأننا مجموعات من القبائل نزحت الى أرض الرافدين، وتوطنت فيها، ولاتربطها بها صلة، ولاعلاقة لها بسومر وآشور كأنما بدوي يتغنى بعمران قديم عقل ناقته الى جواره، ثم سكن فيه، ثم صار وريثا لتلك الحضارة البعيدة.
هانحن نعود الى لغة قديمة بالية، ونطرح الإسئلة السخيفة المتوارثة فإذا رأينا جسرا يعلوا ويزين مدينتنا قلنا، مالهذا الحاكم يبني جسرا، وينسى بناء الإنسان؟ وإذا رأينا طريقا يعبد بالإسفلت قلنا، مالهذا الحاكم يرصف الطرق، ويتجاهل الإنسان، وإذا رأيناه يفتتح محطة للكهرباء، أو مشروعا للصرف الصحي، أو مشروع ماء، أو ملعبا،أو نفقا قلنا وأين بناء الإنسان؟
ياعمي إتقوا الله.. الإنسان المحكوم بالعقديات والموروثات الإجتماعية، وقد غلب عنده الطبع على التطبع، وعاش لقرون محطما وورث ابناءه وأحفاده الخوف والرعب والضياع تريده أن يبتنى من قبل حكومة محاصرة، وأن تترك هذه الحكومة الإعمار والبناء وتتجاهل إن أول سبل بناء الإنسان أن يشعر بالطمأنينة. أن تجتهد ليجد عملا، وطريقا يمر منه الى المدرسة والجامعة والعمل، وجسرا يعبر منه الى المشفى. وبنية تحتية ليشعر أنه محترم. بناء الإنسان ليس بالكلام المعسول، بل بالخدمات والعمل، وفي كل ذلك نحن مقصرون. ماتقوم به الحكومة الأن تم تجاهله طوال عشرين عاما مرت، فلاتبيعوا أكاذيبكم برؤوسنا وأنتم تبحثون عن مكاسب مالية وسلطوية.. قولوا الحقيقة: إن فلانا فضح فشلكم فصرتم تحاولون إسقاطه…

هادي جلومرعي

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
FacebookTwitterYoutube
إغلاق